(( جبل الدموع ))
قصة يابانية قديمة
في اليابان العتيقة، ومنذ عهد بعيد جدا، كان هناك جبل يدعى(جبل الدموع)، وفي قمته وادٍ ضيّق يُحْمَلُ إليه الشيوخ والعجائز من القرى المجاورة عندما يبلغون سن الستين، هناك يتمّ التخلي عنهم ويتركون للموت. بالطبع، كانت هذه عادة وحشية جدا وسببت الكثير من الحزن للناس ولكنها كانت قانونا قديما ولا أحد يجسر على خرقه
.
في إحدى القرى كان هناك فلاح يُدعى يوشي يعيش مع أمه التي تُدعى فوميكو في كوخ صغير بائس، حيث يكدّ الاثنان كدّا محاولين توفير القوت من قطعة أرضهما الصغيرة، في صباح بارد، عندما كان الاثنان في الخارج يقطعان الخشب للموقد، قالت فوميكو (غدا هو أول أيام الربيع)، فرد يوشي (نعم يا أماه هناك الكثير من العمل لننجزه في الأسابيع المقبلة، ولأننا بقوة وصحة فإننا في هذه السنة مع قليل من الحظ سنحظي بحصاد وفير).
قالت أمه (لا يا يوشي، في أول يوم من أيام الربيع قبل ستين سنة مضت، جاءت بي أمي إلي هذا العالم وغدا كما تقتضي العادة، ينبغي عليك أن تحملني إلي قمة جبل الدموع، وتتركني هناك لأموت).
هنا أثقل قلب يوشي بالهم، فقضى بقية النهار في صمت كئيب محاولا أن يدرك سبب العادات القديمة، في المساء التالي، عندما جلس يوشي وفوميكو لتناول آخر عشاء لهما معا، فإن العجوز لم تأكل، الليلة، يا ولدي، ستأكل نصيبي أيضا، فأنا لن احتاج إلي الطعام طويلا، وينبغي أن يكون لديك المزيد من القوة لتحملني إلي قمة الجبل، هكذا ألحّت على ولدها ليأكل، ولكن كان الطعام مثل التراب في فمه فلم يستطع أن يتناول لقمة أخرى.
عندما أشرقت الشمس استعد الاثنان للقيام برحلتهما، نزعت العجوز شالها وغطت به كتفي ابنها (الليلة، يا ولدي، ستدّثر بشالي، فريح الليل رطبة وباردة، وأنت يجب أن تبقي دافئا خلال رحلة عودتك إلي البيت)، وعند الباب نزعت قبقابها الخشبي ووضعته علي الأرض (الليلة يا ولدي لن أحتاج إلي استخدام القبقاب، فخذه واحفظه إلي اليوم الذي يصبح فيه قبقابك باليا)، هنا بدأ قلب يوشي بالتمزق ألما.
ثم صعدت فوميكو فوق ظهر ابنها، وهكذا بدأت الرحلة الحزينة،حيث على الأقدام تسلقا الممر أعلى فأعلى باتجاه قلب الجبل. بزغ القمر عاليا فوق أشجار الصنوبر، وكان التعيسان يشكلان ظلا كظل حيوان غريب برأسين، في منتصف الطريق الجبلي اختفي الممر، فكان على يوشي أن يجد طريقه الخاص وعندما مشى خلال الأشجار والشجيرات فإن فوميكو كسّرت نهايات الأغصان سأل يوشي (ما الذي تفعلينه يا أماه؟ هل تسمين أثرا كي يمكنك أن تجدي طريقك إلي البيت ثانية؟) أجابت (لا يا يوشي، أنا أسم هذا الأثر من أجلك).
عندما سمع هذه الكلمات،فإن قلب يوشي انشقّ إلى نصفين فقال (أماه، أنا لا أستطيع أن أتركك فوق جبل الدموع، ورغم أن القانون يحرم ذلك فإنني سآخذك إلي البيت، أنتِ عجوز ولكنك قوية وطيبة القلب وحتى لو كنت واهنة ضعيفة فإنني لن أتركك هنا كي تموتي).
وهكذا رجعا معا إلي البيت في تلك الليلة، ولكي يتأكد أن ليس من أحد عرف ما الذي قد فعله فإن يوشي أخفى أمه تحت سقيفة باب كوخهما.
قَدِمَ الربيع فقضى يوشي جميع نهاراته في حقول الأرز مشتغلا بكد ضعف شغله لأنه اشتغل وحده، وفي كل ليلة كان ينسل تحت سقيفة الباب حاملا الطعام والشاي لأمه، هناك في الظلمة يقضيان معا بعض لحظات أثيرة.
وفي أحد الأيام دعا مالك أرض المقاطعة (الديميو) جميع فلاحي القرية إلى قلعته، كان (الديميو) رجلا جبارا يبتهج بعض الأوقات، في أمر فلاحيه بعمل فروض غاية في الصعوبة، في هذا اليوم أخبرهم (يجب أن يجلب كل واحد منكم حبلا مجدولا من الرماد، فإن لم يستطع عمل ذلك فسيغرم بوشلا من الرز).
رجع الفلاحون المساكين إلي بيوتهم يمشون ببطء وقد عرفوا أنهم لن يقدروا علي جدل حبل كهذا، وحين دبَّ يوشي تحت سقيفة الباب في تلك الليلة فإنه أخبر أمه بكل ما حدث، رشفت فوميكو شايها، وفكرت لحظة ثم قالت (يمكن عمل ذلك، أولا يجب أن تجدل حبلا من خيط قنبي بكل ما تستطيع من قوة ضعه فوق صخرة ملساء وسخنها بمنتهي العناية إلي أن يتحول الخيط القنّبي إلي رماد، بعدئذ يمكنك أن تحمل الصخرة مع حبل الرماد إلي القلعة)، عمل يوشي كما أخبرته أمه تماما،وفي اليوم التالي حيث تجمع الفلاحون ثانية في القلعة كان هو الوحيد الذي عنده حبل مجدول من الرماد، سرّ الديميو كثيرا بيوشي لكنه أمر أتباعه بعمل فرض آخر ليري إن كان الشاب بارعا حقا كما بدا، فقال (يجب أن تجلبوا محارة بخيط وَلجَ كلّ حلزون من حلازينها،أما أولئك الذين لا يستطيعون إكمال الفرض فينبغي أن يُغرّموا بوشلا آخر من الرز).
من جديد عاد الفلاحون مُجهدين إلي بيوتهم ومحبطين، كيف يمكن لأي كان أن يخيط محّارة؟ ومن جديد أخبر يوشي أمه بكل ما قد حدث،فكرت فوميكو لحظة ثم قالت (يمكن عمل ذلك، أولا يجب أن تضع حبّة رز عند نهاية الخيط،أعط الحبة إلي نملة ما واجعلها تدبّ إلي النهاية العريضة من المحارة، وجّه النهاية الضيقة نحو الضياء، فالنملة ستدبّ نحوها مجتازة كل حلزون في طريقها إلي الخارج، وعندما تصل النملة إلي النهاية فإن محارتك ستكون مخاطة).
فعل يوشي كما أخبرته أمه، وفي اليوم التالي تجمع الفلاحون كان يوشي هو الوحيد الذي استطاع أن يخيط المحارة، كان الديميو متأثرا للغاية فدعا يوشي إلي جانبه قائلا له (أخبرني، أيّها الفلاح الشاب، كيف استطعت أن تنجز مثل هذه الفروض الصعبة).
في حضرة مالك ارض جبار كهذا، فإن قلب يوشي بدأ يخفق بسرعة، وخاف على أمه، ولكنه كان رجلا فاضلا فأجاب بصدق، (اغفرْ لي لأنني قد خدعتك حين لم أطع قوانين شعبنا، في أول يوم من أيام الربيع كان يُفترض عليَّ أن أحمل أمي إلي قمة جبل الدموع وأتركها هناك كما تقتضي العادة، ولكنها أم طيبة القلب حقا فشعرت بالأسي الشديد من أجلها لذا أرجعتها إلي البيت وأخفيتها تحت أرضية كوخنا.
وعندما أمرتنا أن نعمل مسائل صعبة كهذه، سألت أمي طلبا للنصيحة، فكانت هي من اخبرني كيف اصنع الحبل واخيط المحارة).
تأثر الديميو تأثرا شديدا بقصة يوشي حيث تذكر الحزن الذي قد شعر به هو كذلك حين حمل والده ووالدته إلي قمة جبل الدموع، قال (أيها الفلاح يوشي إنها لحقيقة أنك لم تطع قوانين شعبنا وأعرافه، لقد كان واجبك يقتضي بأن تتخلى عن أمك ففشلت في ذلك، لكنّ حكمة أمك علمتنا درسا قيّما).
رفع الديميو صوته لكي يستطيع سماعه جميع الفلاحين (يوما ما سيهرم كل واحد منكم، بعضكم سيصبح ضعيفا وغير قادر علي العمل في الحقول، سيصبح فماً إضافيا لتناول الطعام، ومصدرا للهم بالنسبة لأطفالكم، ولكن بعضكم سيغدو حكيما في تلك السنين، وحكمة الشيوخ شيء نفيس لا يمكن قياسه ببوشلات من الرز، لذلك أعلن عن نهاية قانون التخلي في جبل الدموع).
عندما رجع يوشي إلي كوخه في تلك الليلة، قاد أمه من تحت السقيفة المظلمة إلي قنديل كوخهما، ثم احتفلا ــ الأم وابنها ــ بلقائهما العائلي البهيج.
م/ن